[size=25][size=9][b][size=25]الحياة الاقتصادية
[/size][/size]
[/size]الجانب الاقتصادي فى حياة الأمم يمثل المحدد الرئيسي لقوتها وكفايتها ومستوى رفاهيتها , لذا فوظيفة القائمين على إدارة حياتنا الاقتصادية هى تحقيق الاستخدام الأكفأ للموارد المتاحة بالمجتمع للوصول إلى حالة من التنمية الشاملة المستمرة المتوازنة والتى نحصل من خلالها فى النهاية كأفراد على الإشباع لحاجاتنا وبلوغ أعلى مستوى رفاهية ممكن , وفى سبيل ذلك وكخطوة أولى لابد من تحديد المنهج الذى سيتم الاعتماد عليه فى تحديد كيفية التعامل مع الموارد والمتغيرات المجتمعية وإحداث التفاعل بينها للوصول إلى أفضل ناتج ممكن , والمعايير التى سيتم الاعتماد عليها فى توزيع ذلك الناتج .
والمناهج أو النظم الاقتصادية المتاحة للتطبيق على وجه الأرض ثلاثة , وهى النظام الإسلامي والنظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي , والتجربة أثبتت أننا عندما حاولنا الاعتماد على هذين النظامين الوضعيين - الاشتراكي والرأسمالي – فى إدارة حياتنا الاقتصادية فشلنا فشلا ذريعا , وذلك لأن مقومات نجاحهما غير متوفرة بمجتمعاتنا , وللهروب من هذا الفشل رحنا نتخبط بينهما ونقتطع جزءا من فلسفات هذا وجزءا من توجهات ذاك , حتى صنعنا وعبر الزمن خلطة سرية سحرية خلطنا فيها بين الزيت والماء ظانين أن فيها العلاج لاقتصادنا المعتل , فإذا بها تؤدى به إلى حالة الشلل التام التى نحياها ونرى آثارها على كل شبر من هذه الأرض ,والتى كانت فى الأصل سبب إحساس أغلبنا بوجود مشكلة منهجية وخلل واضح فى إدارة الأمور عامة.
أما النظام الثالث وهو النظام الإسلامي, فإن التجربة تثبت أيضا أننا لم نشهد فى تاريخنا حالة من الرخاء والرفاهية والتقدم على كافة المستويات كتلك التى شهدناها فى ظل تطبيق هذا النظام , ولم تشهد هذه الأرض أياما كتلك التى كان يخرج فيها المنادى بالمال إلى الطرقات يعرضه على الناس ويسأل عمن له حاجة فلا يجد من يأخذ منه شيئا , ونحن هنا لا نتحدث عن حكاية من ألف ليلة وإنما نتحدث عن نظام تطبيقي واضح الملامح يضمن لمن يطبقه نفس النتيجة أيا كان زمانه أو مكانه , والغريب فى الأمر أنه وبالرغم من أن تجربتنا الوحيدة الناجحة وبمثالية عبر تاريخنا كانت فى ظل هذا النظام إلا أننا لم نحاول معاودة التجربة , ومازال البعض يشكك فى قدرته على إصلاح أحوالنا الاقتصادية كجزء من التشكيك فى صلاحية دين الله بشكل عام لإدارة حياتنا .
وذلك على الرغم من أن العقل المجرد إذا ما درس وقارن وتعرف على قواعد وخصائص وأدوات النظام الاقتصادي الإسلامي فلابد وأن يسلم بأفضليته على غيره وقدرته على تحقيق ما لا يمكن لسواه أن يصل إليه .
إلا أننا وتجنبا لتغيير المسار سنسعى لإثبات هذه الأفضلية من خلال عنصرين أساسيين , يمثل أولهما العقبة الرئيسية أمام الانتقال من النظام الاقتصادي الحالي إلى النظام الإسلامي فى نظر البعض وهو الفائدة , والتى تمثل عصب النظام الاقتصادي الحالي وأحد أهم أدواته , وتمثل فى الشريعة الإسلامية الربا المحرم دون لبس أو جدل , ولا يستقيم التطبيق الإسلامي ولا يؤتى ثماره مع استمرار اعتماد نظام الفائدة , بل إن الصفة الإسلامية تسقط بوجود هذا النظام , لذلك فقد وجب استئصاله من حياتنا الاقتصادية والبحث عن الخيارات البديلة التى يتيحها النظام الإسلامي , ومحاولة التعرف على المكاسب المتوقعة من ذلك .
أما العنصر الثانى فهو الزكاة كأحد الأدوات الرئيسية بالنظام الاقتصادي الإسلامي والتى لا يستقيم التطبيق الصحيح فى ظل غيابها , ومحاولة التعرف على المكاسب المتوقعة من اعتمادها كبديل لنظام الضرائب الوضعي .
فالفائدة (الربا) هى الزيادة فى المال الذى هو أصل الدين فى نظير الأجل , ولا تحتاج محاولة فهم أسباب تحريم الفائدة إلى عقل خارق وإنما تكفى الفطرة السليمة والحس الاقتصادي السوي للوصول إلى حالة من اليقين بمضار هذا النظام الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام وتأثيره القاتل على حياتنا بشكل خاص كمجموعة بشرية لها طبيعة خاصة لا تمكنها من النجاح مطلقا فى ظل هذا النظام .
فالفائدة كسب خبيث لأن النقود لا تلد نقودا بذاتها , وإنما يأتى الكسب من تزاوج النقود مع أدوات الإنتاج المختلفة , أما إذا فرضنا الفائدة كنظام يحكم النشاط الاقتصادي فقد ضمنا للنقود أن تلد نقود بدون أي تعرض للمخاطرة أو تحمل للخسائر أو مشاركة فى أي عمل اقتصادي , وقمنا بتحويل هذه الأعباء إلى تكاليف إضافية يتحملها المنتجون والمستهلكون الذين يستغلون هذه الأموال , حيث يقوم المنتجون بإضافة الفوائد التى يدفعونها كثمن للحصول على المال إلى تكاليف منتجاتهم , مما يؤدى إلى ارتفاع أثمانها وبشكل متزايد عن قيمتها الحقيقية وهو ما يؤدى إلى انخفاض القوة الشرائية للنقود والذى يؤدى بدوره إلى انخفاض معدلات الاستهلاك بالمجتمع , وإذا انخفض الاستهلاك أصبح من الصعب تصريف المنتجات وبذلك ينخفض الاستثمار بالمجتمع , وإذا انخفض الاستثمار انخفض الدخل وزادت نسبة البطالة , وإذا زادت البطالة للمستويات التى نراها الآن حدث الشلل العام فى كل مناحى الحياة وتعرضت منظومة القيم بالمجتمع للتدمير شبه الكامل مما يؤذن بسقوطه أمام أي محاولة للاختراق .
وللهروب من هذه الحالة وتجنبا لانخفاض الاستثمار قد تقوم الأنظمة برفع معدلات الفائدة لجذب مدخرات المجتمع مما يؤدى إلى زيادة التكاليف الإضافية على المنتجين القائمين باستغلال هذه المدخرات وقتل أي فرصة للتصدير فى ظل هذه المستويات العالية لتكاليف الإنتاج , مما يؤدى إلى تدهور الأمور بشكل مستمر ومتنام يمس كافة نواحى الحياة وبخاصة الاجتماعية منها .
هذا بالإضافة إلى مجموعة من الآثار السلبية الأخرى لنظام الفائدة من أهمها إهماله لأهمية عنصر تحمل المخاطر فى رفع درجة الإتقان والجودة فى الإنتاج والتطوير المستمر فى أساليب العمل سعيا وراء زيادة الأرباح والهروب من الخسائر , وحرمان المجتمع من اشتراك شريحة غير بسيطة منه وهم أصحاب المدخرات فى العملية الإنتاجية والتنموية لاكتفائهم بما يحصلون عليه من أرباح ممثلا فى الفائدة مع احتفاظهم بأصل المال , مما أدى إلى تقليص حجم المتعاملين فى النشاط الاقتصادي وتجفيف المصادر التمويلية اللازمة للمشروعات الصغيرة على أهميتها بتحويلها إلى تلال من الأموال يقف على حراستها بضعة رجال ويقومون بإعادة إقراضها لبضعة رجال وفق مشاركات سرية وتسويات مربحة فى أغلب الأحيان , وذلك لأنه حيثما وجد القانون الوضعي الذى وضعه بشر طبقا لمصالحه وجد من يتعداه من البشر طبقا لمصالحه أيضا , ويكون من السهولة بمكان إيجاد المساحة المشتركة من المصالح بين الفاسدين هنا وهناك , فيكونون بذلك جبهة تحميهم وتدعمهم وتحسن صورتهم وتجعل من جرائمهم عرفا اقتصاديا ومن خياناتهم خطأ غير مقصود .
وهكذا نهبت مصر وانتزع من شرايينها الاقتصادية ما يزيد عن المئتي مليار فى ضربة موجعة من مجموعة ضربات متتالية تأتى جميعها كنتيجة طبيعية لمسيرة من التخبط المنهجي بين النظم والأهواء .
واستمرار العمل بنظام الفائدة يؤدى على المدى الطويل إلى زيادة ثراء الأثرياء وتفاقم حاجة الفقراء , واستنزاف الطبقة المتوسطة وسقوط أغلبها إلى الطبقة الفقيرة , مما يزيد من حالة الشلل التى سيطرت على أوصالنا لأهمية هذه الطبقة فى عملية التنمية , وبعد أن كنا نصرخ من امتلاك 20% من المجتمع ل 80%من مقدراته وثرواته , صرنا نرى امتلاك 5% من المجتمع ل 95% منه.
وبذلك تظهر فى المجتمع عادات استهلاكية مقيتة كنتيجة طبيعية لحالة الترف الفاحش التى تحياها تلك الشريحة الثرية , وعادات أخرى أكثر مقتا كنتيجة طبيعية لحالة الفقر المدقع التى أصبح اغلب المجتمع يعيش فى ظلها , وهكذا تتفاقم الجريمة بالمجتمع وتزداد كما وكيفا , ويصبح الفساد مفروضا على الجميع لتغطية نفقات الحياة الأساسية , وتزداد الصورة العامة خللا وبشاعة , وتبدو الأمور غير محكومة بأي منطق , ففى الوقت الذى نرى فيه عشرات الآلاف من الأطفال المشردين فى شوارع مصر نجد أن مصر تستورد بعشرات الملايين أطعمة خاصة لكلابها المدللة وتنفق عشرات المليارات على استهلاك المخدرات التى تمثل للأغلبية الفقيرة الطريق الأقصر للهروب من الواقع البائس ومن الدوافع الداخلية لمواجهته , وللأقلية الثرية استكمالا لحالة الترف والاستمتاع .
كل ذلك وغيره مما لم يصل إليه إدراكنا من آثار سلبية لنظام الفائدة يثبت بما لا يدع مجالا للشك خطورته على الأنظمة الاقتصادية المعتمدة عليه , وضرورة وصولها إلى مرحلة التدهور والشلل التام , وهذا هو ما حدث فى منتصف القرن العشرين تقريبا فى الاقتصاديات الغربية وسمي بالكساد العالمي الكبير .
وهنا يجب علينا البحث عن البدائل المناسبة لنظام الفائدة فى التشريع الإسلامي , وبالبحث نجد أن الشارع حرم الفائدة (الربا) وترك الباب مفتوحا فيما عدا ذلك لما ينتجه العقل من اجتهادات وما يفرضه الواقع من ضرورات , وتبقى عقود المشاركة أو المضاربة بصورها المختلفة هى البديل الأفضل لنظام الفائدة , حيث تحقق من المصالح ما يفوق ما تحققه الأنظمة الربوية وفى ذات الوقت تتفادى الآثار السلبية الرهيبة لها على مجتمعنا , وذلك لتوافق نظام المشاركة مع الطبيعة الإنسانية والاقتصادية السليمة مما جعله الأقدر على تحقيق غاياتها من خلال آلياته الضامنة لتوفير قوة الدفع الذاتي المستمرة والمتنامية داخل النظام الاقتصادي بدون التعرض لما تتعرض له الأنظمة الوضعية من دورات اقتصادية تخضعها لمراحل التدهور والشلل رغما عنها .
وسبب مثالية هذا النظام هو أنه نجح فى وضع الصيغة التعاقدية المثلى التى تحكم العلاقة بين من يملكون المال ومن يستثمرونه أو بين رأس المال والعمل , فيوفر للمستثمر أو المضارب الأموال اللازمة لتمويل مشروعه بدون التكاليف الإضافية التى يتحملها فى حالة الاقتراض الربوي مما يقلل من تكاليفه الكلية ويحافظ على تنافسية إنتاجه بالسوق من الناحية السعرية على الأقل , ويوفر لمالك المال مساحة أكبر من فرص الاستثمار المتنوعة وهامش ربح غير محدد مع الاحتفاظ بحقه فى الدخول إلى السوق أو الخروج منه وقتما شاء .
وبعيدا عمن يملكون المال ومن يستثمرونه , وبالنظر إلى المجتمع ككل يمكننا أن نرى الآثار الإيجابية الحقيقية لنظام المشاركة أو المضاربة .
فبداية يحافظ هذا النظام وإلى أبعد الحدود على أهمية عنصر تحمل المخاطر فى تجويد وتطوير الإنتاج بشكل مستمر سعيا وراء زيادة الأرباح وهروبا من الخسائر , كما يتميز بالكفاءة الكاملة فى توزيع مدخرات المجتمع على الاستثمارات الأكثر ربحية , واكتشاف الحاجات المجتمعية الغير مشبعة والسعي لإشباعها بشكل تنافسي , بالإضافة إلى أنه يضخ نسبة غير بسيطة من استثمارات المجتمع للمشروعات الصغيرة والتى لا يمكن لمجتمع كمجتمعنا النهوض بدونها , مما يؤدى بدوره إلى تخفيض نسبة البطالة والوصول إلى حالة التوظف الكامل التى تمثل فى النظام الإسلامي حالة ضرورية يجب الوصول إليها لا رفاهية , كما يمثل نظام المشاركة مخرجا مثاليا لشريحة غير بسيطة من أصحاب المال المتمسكين بالشريعة الإسلامية الذين رفضوا التعامل مع المؤسسات الربوية وحجزوا أموالهم عن الاستثمار وهو ما يسمى بالاكتناز , والاكتناز محرم شرعا لما له من آثار سلبية رهيبة على المجتمع حيث يمثل حجب جزء من مدخرات المجتمع ومنعها من العمل والاستثمار بعد أن منعت فى الأصل من الاستهلاك , مما يؤدى إلى خفض الاستثمار وما يترتب عليه من مصائب متتالية كما سبق ذكره .
وهذا يدفعنا للانتقال إلى العنصر الثانى وهو الزكاة والتى تمثل الركن الثالث من أركان الإسلام وأحد أهم أدوات النظام الاقتصادي الإسلامي , ووظيفة الزكاة هى محاربة الاكتناز ودفع رؤوس الأموال ممثلة فى مدخرات المجتمع نحو الاستثمار والإنتاج , وتوفير مصدر تمويلي إضافي للدولة لاستخدامه فى أوجه الإنفاق المختلفة , وتمثل البديل الإسلامي للضرائب الوضعية .
ولأن حالة التوازن فى النشاط الاقتصادي تحدث عندما يتساوى الادخار مع الاستثمار فإن اكتناز الأموال وحجبها عن المشاركة فى النشاط الاقتصادي يؤدى إلى نقص الاستثمار عن الادخار , ولتفادى ذلك تقوم الأنظمة الربوية بدفع مقابل مغر ممثلا فى الفائدة للحصول على هذه الأموال من أصحابها ودفعها للاستثمار .
أما فى النظام الإسلامي فتقوم الزكاة بذلك الدور على الوجه الأكمل بما تمثله من تهديد بالنقصان للأموال المكتنزة الغير مستثمرة , حيث سيتم استقطاع 2.5% منها سنويا مما يدفع أصحاب المدخرات لإشراكها فى النشاط الاقتصادي تجنبا لذلك .
كذلك فإن الزكاة فى النظام الإسلامي تمثل بديل الضرائب فى النظم الوضعية , وكلاهما يمثل موردا إضافيا للدولة بجانب مواردها السيادية ويستخدم فى الإنفاق العام المنوط بالدولة, ولكن شتان بين النظامين وبين تأثيرهما المتناقض على المجتمع , فبينما تعمل الزكاة كدافع يحشد مدخرات المجتمع ويوجهها نحو زيادة الاستثمار نجد أن الضرائب تعمل كعائق أمام الاستثمار يحد من نموه ويدفع المدخرات عنه , وذلك لأن نظام الضرائب الذى ما أنزل الله به من سلطان بل هو محرم شرعا يجعل من الدولة شريكا لرؤوس الأموال العاملة فيها ويأخذ نسبة محددة من أرباحها تتراوح فى مجتمعنا بين 20% : 30% وكانت أكثر من ذلك , ولكي تضمن الدولة الحصول على حصتها دون نقصان أو تلاعب تفرض على الممولين التقيد بتسجيل كل صغيرة وكبيرة من أعمالهم , والاحتفاظ بتلال من السجلات والمستندات لإثبات عدم التلاعب , ولإحكام قبضتها تنشئ وتدير جهازا ضخما يعمل فيه جيش من البشر , وظيفتهم رقابة الممولين والتلصص على أعمالهم لحماية نصيب الشريك المفروض الذى يمثلونه وهو الدولة , فيضعون عشرات القيود ويفرضون على كل شيء تصريحا لا يتم بدون الحصول عليه , مما يؤدى إلى هروب رؤوس الأموال وتنفيرها من المشاركة فى العملية الاقتصادية فينخفض بذلك الاستثمار وتتوالى المصائب.
وتخفيض نسبة الضرائب يؤدى بالضرورة إلى زيادة الاستثمار وزيادة حصيلة الضرائب فى أغلب الأحيان , وهذا هو ما حدث فى مصر مؤخرا عندما خفضت نسبة الضرائب تخفيضا بسيطا فازدادت حصيلتها من 400 مليون جنيه إلى ما يزيد على المليار بالنسبة للأفراد فقط , أي بنسبة زيادة بلغت 150% , وازداد عدد الممولين بنسبة 80% .
وهنا يمكننا أن نتخيل الأثر الإيجابي لرفع الضرائب كليا عن كاهل المجتمع واكتفاء الدولة بحصيلة الزكاة بجانب مواردها السيادية .
وسبحان الذى خلق الإنسان وشرع له من النظم ما تستقيم به حياته بناء على علمه بمن خلق , ولكن الإنسان ظلوم جهول[/b]